تحقيقات وتقاريرعام

صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (58)

العباسة أخت الرشيد هل كانت سبب نكبة البرامكة ؟!!

التاريخ منتج بشري وليس قرآنا منزلا من السماء، لذلك يجب أن نمرر القصص والمواقف التاريخية علي العقل، فإن قبلها أخذنا بها، وإن رفضها توقفنا عندها وشككنا فيها، لأن قطاعا عريضا ممن كتبوا التاريخ ونقلوا رواياته ومواقفه وحكاياته، تعاملوا مع الأحداث والمواقف وفقا للأمزجة والأهواء والبغض والحب والتوجهات والعصبية.

وكثير من المؤرخين كانوا شيعة يدسون السم في العسل مثل اليعقوبي والمسعودي والأصفهاني وأبو مخنف وهشام الكلبي وأبوه محمد وغيرهم.

وقد تعرض الأمويون والعباسيون لحملة تشويه كان النصيب الأعظم منها للأمويين بكل تأكيد، لأن تدوين التاريخ بدأ بعد سقوط دولتهم، فكانوا الطرف الأضعف كما أن أعداءهم كانوا كثر.

ونسترجع بعض ما قلناه قبل ذلك في حلقة “الأمويون في الميزان” ونتوقف عند ما قاله الدكتور حمدي شاهين في كتابه الدولة الأموية المفتري عليها:”إذا كان الله عز وجل قد قيض للحديث النبوي الشريف من يكشف صحيحه من ضعيفه وموضوعه، لما له من أهمية تشريعية خاصة، فإن طبيعة علم التاريخ واتساع مجاله وتعدد عصوره وفيض رواياته قد وقف حائلا دون تتبع كل محاولات التحريف والكذب فيه، خاصة في ظل اتساع مصادر التاريخ وتنوعها.

وقد تنبه بعض كبار مؤرخينا القدامي إلي شيوع الوضع في الرواية التاريخية، لكنهم كانوا ينشرونها مخافة اتهامهم بأنهم جهلوا أشياء ذكرها غيرهم.

ويقول عمدة المؤرخين محمد بن جرير الطبري في مقدمه كتابه «تاريخ الرسل والملوك»: ما في كتابي هذا من خبر يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه فليعلم أنه لم يؤت من قبلنا وإنما من بعض ناقليه إلينا”.

هذه المقدمة كانت ضرورية لنضع بعض المواقف التاريخية في سياقها الصحيح، وقد تعمدنا غض الطرف عن قصة العباسة بنت المهدي وحفيدة المنصور وأخت الرشيد وأنها من أهم أسباب نكبة البرامكة بزعم ارتباطها بجعفر بن يحيي البرمكي، لأن القصة لا يقبلها العقل ولا يستسيغها المنطق لكن بعد أن أشار البعض إليها وتحدث عنها فلا بأس من ذكرها لكشف كذبها.

تقول القصة المزعومة: إن هارون الرشيد كان لا يستطيع الصبر علي أخته علية الشهيرة بالعباسة وصديقه الحميم جعفر البرمكي، ولكي يظل الإثنان معه عقد زواجا بينهما، لكنه زواج صوري لمجرد أن يجلس الإثنان معه دون أن يري جعفر العباسة ودون أن يجرؤ علي النظر إلي زوجته !! لماذا؟ لأنه ليس كفؤا لها.

هل انتهت القصة الغريبة عند هذا الحد ؟ .. بالطبع لا لأن العباسة أرادت أن تحول الزواج الصوري إلي واقع، وحاولت مع جعفر فرفض رفضا قاطعا، خوفا من أن يتعرض هو وأهل بيته لغضب الرشيد وما أدراكم ما غضب الرشيد.

فماذا تفعل العباسة لتجتمع مع زوجها ؟ تواصلت مع أم جعفر وطلبت منها أن تقدمها لجعفر لأنها اعتادت أن تقدم لجعفر ليلة كل جمعة جارية بكرا (كان جعفر ملكا غير متوج وغارقا في الملذات) فخافت أم جعفر من تداعيات هذا الأمر وآثاره الوخيمة علي أسرتها، لكن العباسة هددتها بأنها ستبلغ أخاها الرشيد بأمور تغضبه عن البرامكة إذا لم تنفذ طلبها، ورضخت أم جعفر وقدمت العباسة لجعفر علي أنها جارية ودخلت عليه بعد أن أفرط في الشراب وجامعها وعندما أفاق، قالت له العباسة : هل رأيت كيف تكون خديعة بنات الملوك ؟! فأسقط في يد جعفر وقال لأمه بعتني بالرخيص يا أماه، ثم تواصلت العلاقة حتي حملت العباسة وأنجبت ولدا من جعفر أخفوا قصته عن الرشيد وأرسلوا الطفل ليعيش في مكة، فعرف الرشيد من إحدي جواريه بالقصة فقامت الدنيا ولم تقعد وقرر القضاء علي البرامكة بل وقتل أيضا الطفل الوليد الذي لا ذنب له !

إذا وضعنا القصة في سياقها سنجد أنها مختلقة تماما ولم يذكرها بتفاصيلها إلا كتاب من الفرس وجورجي زيدان وهو غير مسلم، ولايلتفت إلي كتاباته التاريخية التي عمد فيها إلي الأسلوب الروائي الذي يخلط الحقيقة بالخيال.

والحقيقة أن العباسة كانت متزوجة من ابن عمها موسي بن عيسي بن موسي.

وإننا نتساءل: هل العباسة في دينها وشرفها وأخلاقها تقبل علي نفسها هذه المهانة، هل تقبل أن تبتذل وتقدم نفسها كجارية لواحد من الرعية لايجرؤ علي أن ينطق اسمها مجردا وإنما مسبوقا بلقب سيدتي أو مولاتي الأميرة؟.

وهل وصل الحال بالرشيد وهو من أعظم ملوك بني العباس أن يستهين بالدين إلي هذا الحد ويحرم ما أحله الله ؟ فكيف يسمح بزواجهما ثم يمنعهما مما أحل الله للمتزوجين .. ثم يقتل طفلا بلاذنب.

كما أن بنات بني العباس كن حكرا علي أبناء العمومة الأقربين، أو من رجال بني هاشم.

وقد وصل تعداد العباسييين فقط وليس الهاشميين في عهد المأمون إلي أكثر من 30 ألفا.

وهل وصلت استهانة الرشيد بملكه وسلطانه إلي حد أن يزوج أخته لواحد من الرعية مهما علا شأنه أميرا كان أو قائدا؟.

القصة مختلقة من بدايتها إلي نهايتها وربما كانت محاولات فارسية للانتقام من الرشيد ودولتهم بعد أن قضي علي أهم أسرة فارسية في تاريخ دولة بني العباس، وهي أسرة البرامكة التي سنتحدث عن توابع نكبتها في الحلقات المقبلة إن شاء الله .

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى